كتاب: في ظلال القرآن (نسخة منقحة)

/ﻪـ 
البحث:

هدايا الموقع

هدايا الموقع

روابط سريعة

روابط سريعة

خدمات متنوعة

خدمات متنوعة
الصفحة الرئيسية > شجرة التصنيفات
كتاب: في ظلال القرآن (نسخة منقحة)



ولقد نشهد في بعض الفترات أمماً لا تتقي الله ولا تقيم شريعته؛ وهي مع هذا موسع عليها في الرزق، ممكن لها في الأرض.
ولكن هذا إنما هو الابتلاء: {ونبلوكم بالشر والخير فتنة} ثم هو بعد ذلك رخاء مؤوف، تأكله آفات الاختلال الاجتماعي والانحدار الأخلاقي، أو الظلم والبغي وإهدار كرامة الإنسان.. وأمامنا الآن دولتان كبيرتان موسع عليهما في الرزق، ممكن لهما في الأرض. إحداهما رأسمالية والأخرى شيوعية. وفي الأولى يهبط المستوى الأخلاقي إلى الدرك الأسفل من الحيوانية، ويهبط تصور الحياة إلى الدرك الأسفل كذلك فيقوم كله على الدولار!! وفي الثانية تهدر قيمة الإنسان إلى درجة دون الرقيق وتسود الجاسوسية ويعيش الناس في وجل دائم من المذابح المتوالية؛ ويبيت كل إنسان وهو لا يضمن أنه سيصبح ورأسه بين كتفيه لا يطيح في تهمة تحاك في الظلام! وليست هذه أو تلك حياة إنسانية توسم بالرخاء!
ونمضي مع نوح في جهاده النبيل الطويل. فنجده يأخذ بقومه إلى آيات الله في أنفسهم وفي الكون من حولهم، وهو يعجب من استهتارهم وسوء أدبهم مع الله، وينكر عليهم ذلك الاستهتار:
{ما لكم لا ترجون لله وقاراً وقد خلقكم أطواراً}..
والأطوار التي يخاطب بها قوم نوح في ذلك الزمان لابد أن تكون أمراً يدركونه، أو أن يكون أحد مدلولاتها مما يملك أولئك القوم في ذلك الزمان أن يدركوه، ليرجو من وراء تذكيرهم به أن يكون له في نفوسهم وقع مؤثر، يقودهم إلى الاستجابة. والذي عليه أكثر المفسرين أنها الأطوار الجنينية من النطفة إلى العلقة إلى المضغة إلى الهيكل إلى الخلق الكامل.. وهذا يمكن أن يدركه القوم إذا ذكر لهم. لأن الأجنة التي تسقط قبل اكتمالها في الأرحام يمكن أن تعطيهم فكرة عن هذه الأطوار. وهذا أحد مدلولات هذه الآية. ويمكن أن يكون مدلولها ما يقوله علم الأجنة. من أن الجنين في أول أمره يشبه حيوان الخلية الواحدة؛ ثم بعد فترة من الحمل يمثل الجنين شبه الحيوان المتعدد الخلايا. ثم يأخذ شكل حيوان مائي. ثم شكل حيوان ثديي. ثم شكل المخلوق الإنساني.. وهذا أبعد عن إدراك قوم نوح. فقد كشف هذا حديثاً جداً. وقد يكون هذا هو مدلول قوله تعالى في موضع آخر بعد ذكر أطوار الجنين: {ثم أنشأناه خلقا آخر فتبارك الله أحسن الخالقين} كما أن هذا النص وذاك قد تكون لهما مدلولات أخرى لم تتكشف للعلم بعد.. ولا نقيدهما..
وعلى أية حال فقد وجه نوح قومه إلى النظر في أنفسهم، وأنكر عليهم أن يكون الله خلقهم أطواراً، ثم هم بعد ذلك لا يستشعرون في أنفسهم توقيراً للجليل الذي خلقهم.. وهذا أعجب وأنكر ما يقع من مخلوق!
كذلك وجههم إلى كتاب الكون المفتوح: {ألم تروا كيف خلق الله سبع سماوات طباقاً وجعل القمر فيهن نوراً وجعل الشمس سراجاً}.
والسماوات السبع لا يمكن حصرها في مدلول مما تقول به الفروض العلمية في التعريف بالكون. فهي كلها مجرد فروض. إنما وجه نوح قومه إلى السماء وأخبرهم كما علمه الله أنها سبع طباق. فيهن القمر نور وفيهن الشمس سراج. وهم يرون القمر ويرون الشمس، ويرون ما يطلق عليه اسم السماء. وهو هذا الفضاء ذو اللون الأزرق. أما ما هو؟ فلم يكن ذلك مطلوباً منهم. ولم يجزم أحد إلى اليوم بشيء في هذا الشأن.. وهذا التوجيه يكفي لإثارة التطلع والتدبر فيما وراء هذه الخلائق الهائلة من قدرة مبدعة.. وهذا هو المقصود من ذلك التوجيه. ثم عاد نوح فوجه قومه إلى النظر في نشأتهم من الأرض وعودتهم إليها بالموت ليقرر لهم حقيقة إخراجهم منها بالبعث: {والله أنبتكم من الأرض نباتاً ثم يعيدكم فيها ويخرجكم إخراجاً}..
والتعبير عن نشأة الإنسان من الأرض بالإنبات تعبير عجيب موح. وهو يكرر في القرآن في صور شتى. كقوله تعالى: {والبلد الطيب يخرج نباته بإذن ربه والذي خبث لا يخرج إلا نكداً} وهو يشير في هذا إلى نشأة الناس كنشأة النبات. كما يقرن نشأة الإنسان بنشأة النبات في مواضع متفرقة: ففي سورة الحج يجمع بينهما في آية واحدة في صدد البرهنة على حقيقة البعث فيقول: {يا أيها الناس إن كنتم في ريب من البعث فإنا خلقناكم من تراب ثم من نطفة ثم من علقة ثم من مضغة مخلقة وغير مخلقة لنبين لكم ونقر في الأرحام ما نشآء إلى أجل مسمى ثم نخرجكم طفلاً ثم لتبلغوا أشدكم ومنكم من يتوفى ومنكم من يرد إلى أرذل العمر لكيلا يعلم من بعد علم شيئاً وترى الأرض هامدة فإذآ أنزلنا عليها المآء اهتزت وربت وأنبتت من كل زوج بهيج} وفي سورة المؤمنون يذكر أطوار النشأة الجنينية قريباً مما ذكرت في سورة الحج ويجيء بعدها: {فأنشأنا لكم به جنات من نخيل وأعناب} وهكذا.
وهي ظاهرة تستدعي النظر ولا ريب. فهي توحي بالوحدة بين أصول الحياة على وجه الأرض. وأن نشأة الإنسان من الأرض كنشأة النبات. من عناصرها الأولية يتكون. ومن عناصرها الأولية يتغذى وينمو، فهو نبات من نباتها. وهبة الله هذا اللون من الحياة كما وهب النبات ذلك اللون من الحياة. وكلاهما من نتاج الأرض، وكلاهما يرضع من هذه الأم!
وكذلك ينشئ الإيمان في المؤمن تصوراً حقيقياً حياً لعلاقته بالأرض وبالأحياء. تصوراً فيه دقة العلم وفيه حيوية الشعور. لأنه قائم على الحقيقة الحية في الضمير. وهذه ميزة المعرفة القرآنية الفريدة.
والناس الذين نبتوا من الأرض يعودون إلى جوفها مرة أخرى. ويعيدهم الله إليها كما أنبتهم منها. فيختلط رفاتهم بتربتها، وتندمج ذراتهم في ذراتها، كما كانوا فيها من قبل أن ينبتوا منها! ثم يخرجهم الذي أول مرة؛ وينبتهم كما أنبتهم أول مرة.
مسألة سهلة يسيرة لا تستدعي التوقف عندها لحظة، حين ينظر الإنسان إليها من هذه الزاوية التي يعرضها القرآن منها!
ونوح عليه السلام وجه قومه إلى هذه الحقيقة لتستشعر قلوبهم يد الله وهي تنبتهم من هذه الأرض نباتاً، وهي تعيدهم فيها مرة أخرى. ثم تتوقع النشأة الأخرى وتحسب حسابها، وهي كائنة بهذا اليسر وبهذه البساطة. بساطة البداهة التي لا تقبل جدلاً!
وأخيراً وجه نوح قلوب قومه إلى نعمة الله عليهم في تيسير الحياة لهم على هذه الأرض وتذليلها لسيرهم ومعاشهم وانتقالهم وطرائق حياتهم: {والله جعل لكم الأرض بساطاً لتسلكوا منها سبلاً فجاجاً}..
وهذه الحقيقة القريبة من مشاهدتهم وإدراكهم تواجههم مواجهة كاملة، ولا يملكون الفرار منها كما كانوا يفرون من صوت نوح وإنذاره. فهذه الأرض بالقياس إليهم مبسوطة ممهدة حتى جبالها قد جعل لهم عبرها دروباً وفجاجاً، كما جعل في سهولها من باب أولى. وفي سبلها ودروبها يمشون ويركبون وينتقلون؛ ويبتغون من فضل الله، ويتعايشون في يسر وتبادل للمنافع والأرزاق.
وهم كانوا يدركون هذه الحقيقة المشاهدة لهم بدون حاجة إلى دراسات علمية عويصة، يدرسون بها النواميس التي تحكم وجودهم على هذه الأرض، وتيسر لهم الحياة فيها. وكلما زاد الإنسان علماً أدرك من هذه الحقيقة جوانب جديدة وآفاقاً بعيدة.
هكذا سلك نوح أو حاول أن يسلك إلى آذان قومه وقلوبهم وعقولهم بشتى الأساليب، ومتنوع الوسائل في دأب طويل، وفي صبر جميل، وفي جهد نبيل، ألف سنة إلا خمسين عاماً. ثم عاد إلى ربه الذي أرسله إليهم، يقدم حسابه، ويبث شكواه، في هذا البيان المفصل، وفي هذه اللهجة المؤثرة. ومن هذا البيان الدقيق نطلع على تلك الصورة النبيلة من الصبر والجهد والمشقة، وهي حلقة واحدة في سلسلة الرسالة السماوية لهذه البشرية الضالة العصية! فماذا كان بعد كل هذا البيان؟
{قال نوح رب إنهم عصوني واتبعوا من لم يزده ماله وولده إلا خساراً ومكروا مكراً كباراً وقالوا لا تذرن آلهتكم ولا تذرن وداً ولا سواعاً ولا يغوث ويعوق ونسراً وقد أضلوا كثيراً ولا تزد الظالمين إلا ضلالاً}..
رب إنهم عصوني! بعد كل هذا الجهاد، وبعد كل هذا العناء. وبعد كل هذا التوجيه. وبعد كل هذا التنوير. وبعد الإنذار والإطماع والوعد بالمال والبنين والرخاء.. بعد هذا كله كان العصيان. وكان السير وراء القيادات الضالة المضللة، التي تخدع الأتباع بما تملك من المال والأولاد، ومظاهر الجاه والسلطان. ممن {لم يزده ماله وولده إلا خساراً} فقد أغراهم المال والولد بالضلال والإضلال، فلم يكن وراءهما إلا الشقاء والخسران.
هؤلاء القادة لم يكتفوا بالضلال.
{ومكروا مكراً كباراً}. مكراً متناهياً في الكبر. مكروا لإبطال الدعوة وإغلاق الطريق في وجهها إلى قلوب الناس. ومكروا لتزيين الكفر والضلال والجاهلية التي تخبط فيها القوم. وكان من مكرهم تحريض الناس على الاستمساك بالأصنام التي يسمونها آلهة: {وقالوا لا تذرن آلهتكم}.. بهذه الإضافة: {آلهتكم} لإثارة النخوة الكاذبة والحمية الآثمة في قلوبهم. وخصصوا من هذه الأصنام أكبرها شأناً فخصوها بالذكر ليهيج ذكرها في قلوب العامة المضللين الحمية والاعتزاز.. {ولا تذرن وداً ولا سواعاً ولا يغوث ويعوق ونسراً}.. وهي أكبر آلهتهم التي ظلت تعبد في الجاهليات بعدهم إلى عهد الرسالة المحمدية.
وهكذا تلك القيادات الضالة المضللة تقيم أصناماً، تختلف أسماؤها وأشكالها، وفق النعرة السائدة في كل جاهلية؛ وتجمع حواليها الأتباع، وتهيج في قلوبهم الحمية لهذه الأصنام، كي توجههم من هذا الخطام إلى حيث تشاء، وتبقيهم على الضلال الذي يكفل لها الطاعة والانقياد: {وقد أضلوا كثيراً} ككل قيادة ضالة تجمع الناس حول الأصنام.. أصنام الأحجار. وأصنام الأشخاص. وأصنام الأفكار.. سواء!! للصد عن دعوة الله، وتوجيه القلوب بعيداً عن الدعاة، بالمكر الكبّار، والكيد والإصرار!
هنا انبعث من قلب النبي الكريم نوح عليه السلام ذلك الدعاء على الظالمين الضالين المضلين، الماكرين الكائدين:
{ولا تزد الظالمين إلا ضلالاً}..
ذلك الدعاء المنبعث من قلب جاهد طويلاً، وعانى كثيراً، وانتهى بعد كل وسيلة إلى اقتناع بأن لا خير في القلوب الظالمة الباغية العاتية؛ وعلم أنها لا تستحق الهدى ولا تستأهل النجاة.
وقبل أن يعرض السياق بقية دعاء نوح عليه السلام يعرض ما صار إليه الظالمون الخاطئون في الدنيا والآخرة جميعاً! فأمر الآخرة كأمر الدنيا حاضر بالقياس إلى علم الله، وبالقياس إلى الوقوع الثابت الذي لا تغيير فيه:
{مما خطيئاتهم أغرقوا فأدخلوا ناراً فلم يجدوا لهم من دون الله أنصاراً}.
فبخطيئاتهم وذنوبهم ومعصياتهم أغرقوا فأدخلوا ناراً. والتعقيب بالفاء مقصود هنا، لأن إدخالهم النار موصول بإغراقهم؛ والفاصل الزمني القصير كأنه غير موجود، لأنه في موازين الله لا يحسب شيئاً. فالترتيب مع التعقيب كائن بين إغراقهم في الأرض وإدخالهم النار يوم القيامة. وقد يكون هو عذاب القبر في الفترة القصيرة بين الدنيا والآخرة.. {فلم يجدوا لهم من دون الله أنصاراً}..
لا بنون ولا مال ولا سلطان ولا أولياء من الآلهة المدعاة!
وفي آيتين اثنتين قصيرتين ينتهي أمر هؤلاء العصاة العتاة، ويطوى ذكرهم من الحياة! وذلك قبل أن يذكر السياق دعاء نوح عليهم بالهلاك والفناء.. ولا يفصل هنا قصة غرقهم، ولا قصة الطوفان الذي أغرقهم. لأن الظل المراد إبقاؤه في هذا الموقف هو ظل الإجهاز السريع، حتى ليعبر المسافة بين الإغراق والإحراق في حرف الفاء! على طريقة القرآن في إيقاعاته التعبيرية والتصويرية المبدعة.
فنقف نحن في ظلال السياق لا نتعداها إلى تفصيل قصة الإغراق.. ولا الإحراق..!
ثم يكمل دعاء نوح الأخير؛ وابتهاله إلى ربه في نهاية المطاف:
{وقال نوح رب لا تذر على الأرض من الكافرين دياراً إنك إن تذرهم يضلوا عبادك ولا يلدوا إلا فاجراً كفاراً رب اغفر لي ولوالدي ولمن دخل بيتي مؤمناً وللمؤمنين والمؤمنات ولا تزد الظالمين إلا تباراً}..
فقد ألهم قلب نوح أن الأرض تحتاج إلى غسل يطهر وجهها من الشر العارم الخالص الذي انتهى إليه القوم في زمانه. وأحياناً لا يصلح أي علاج آخر غير تطهير وجه الأرض من الظالمين، لأن وجودهم يجمد الدعوة إلى الله نهائياً، ويحول بينها وبين الوصول إلى قلوب الآخرين. وهي الحقيقة التي عبر عنها نوح، وهو يطلب الإجهاز على أولئك الظالمين إجهازاً كاملاً لا يبقي منهم دياراً أي صاحب ديار فقال: {إنك إن تذرهم يضلوا عبادك}.. ولفظة {عبادك} توحي بأنهم المؤمنون. فهي تجيء في السياق القرآني في مثل هذا الموضوع بهذا المعنى. وذلك بفتنتهم عن عقيدتهم بالقوة الغاشمة، أو بفتنة قلوبهم بما ترى من سلطان الظالمين وتركهم من الله في عافيه!
ثم إنهم يوجدون بيئة وجواً يولد فيها الكفار، وتوحي بالكفر من الناشئة الصغار، بما يطبعهم به الوسط الذي ينشئه الظالمون، فلا توجد فرصة لترى الناشئة النور، من خلال ما تغمرهم به البيئة الضالة التي صنعوها. وهي الحقيقة التي أشار إليها قول النبي الكريم نوح عليه السلام، وحكاها عنه القرآن: {ولا يلدوا إلا فاجراً كفاراً}.. فهم يطلقون في جو الجماعة أباطيل وأضاليل، وينشئون عادات وأوضاعاً ونظماً وتقاليد، ينشأ معها المواليد فجاراً كفاراً، كما قال نوح..
من أجل هذا دعا نوح عليه السلام دعوته الماحقة الساحقة. ومن أجل هذا استجاب الله دعوته، فغسل وجه الأرض من ذلك الشر؛ وجرف العواثير التي لا تجرفها إلا قوة الجبار القدير.
وإلى جانب الدعوة الساحقة الماحقة التي جعلها خاتمة دعائه وهو يقول: {ولا تزد الظالمين إلا تباراَ} أي هلاكاً ودماراً إلى جانب هذا كان الابتهال الخاشع الودود:
{رب اغفر لي ولوالدي ولمن دخل بيتي مؤمناً وللمؤمنين والمؤمنات...}.
ودعاء نوح النبي لربه أن يغفر له.. هو الأدب النبوي الكريم في حضرة الله العلي العظيم.. أدب العبد في حضرة الرب. العبد الذي لا ينسى أنه بشر، وأنه يخطئ، وأنه يقصر، مهما يطع ويعبد، وأنه لا يدخل الجنة بعمله إلا أن يتغمده الله بفضله، كما قال أخوه النبي الكريم محمد صلى الله عليه وسلم وهذا هو الاستغفار الذي دعا قومه العصاة الخاطئين إليه، فاستكبروا عليه.